Sunday, 06 Oct 2024
في نقد أساليب تعليم اللغة العربية:

كيف قتلوا فينا حبها؟!

  • سليم الأغبري

    كلنا واجهنا صعوبة في التعامل باللغة العربية الفصحى وفي تعلمها خلال سنين الدراسة في المدارس والجامعات. وربما امتدت المشكلة مع البعض إلى حياتهم المهنية بعد انتهائهم من مرحلة التعليم الجامعي. ولم تكن المعاناة على نفس القدر؛ فقد اختلفت مشكلة التعامل مع العربية بين الأفراد في الشكل والمستوى. فمن مشكلات التحدث والقراءة الصحيحة التي لا يخالطها لحن، وهي مشكلة يواجهها إلى الآن جمهور عريض من غالبية المواطنين العرب، بل وبعض الإعلاميين. ومرورًا بمشكلة الكتابة بالعربية بالشكل الصحيح الذي يخلو من الأخطاء بأنواعها الإملائية والصياغية. وانتهاء باجتماع المشكلتين معا. فأصبحت مشكلة العربية لدى البعض معقدة. واتصفت العربية من قبل القاصي والداني بالصعوبة والتعقيد. وتراكمت المشكلة وزادت تشعبا حتى صرنا نواجه مشكلة أعقد من ضعف البعض في العربية، فقد صارت مشكلة وجودية، ترتبط بالهُوية والتراث. ولم يعد الخطر مرتبط بقلة المتقنين للفصحى بقدر ما أصبح الخطر مرتبطًا بضياع التراث الفكري والانقطاع عنه بالإضافة إلى تشرذم ما تبقى من أواصر الصلة بين العرب. إذ يقول شريف الشوباشي "يخطئ كثيرًا من يتصور أن قضية اللغة من القضايا الهامشية أو الثانوية التي يواجهها المجتمع، أو حتى أنها مجرد قضية هامة من بين قضاياه المتعددة". بل هي بكل تأكيد قضية مصيرية وجودية ترتبط بالهُوية والعلاقة مع التاريخ ورؤيتنا للمستقبل. 

"المشكلة فينا أم في اللغة"

    فإن علمنا أن عدد لغات العالم يصل إلى حوالي 6500، وتقع العربية في المرتبة الرابعة من حيث عدد المتحدثين بها. وهي اللغة الرسمية أو إحدى اللغات الرسمية في 25 دولة. وهي كذلك واحدة من اللغات الرسمية السبع للأمم المتحدة. وإذا عرفنا أن عدد العرب الذين يقطنون الرقعة الجغرافية التي تعرف باسم الوطن العربي لا يتجاوز عددهم 470 مليون في أعلى التقديرات، وأن نسبة المتعلمين (غير الأميين) في العالم العربي لا تتجاوز 70% فكم تكون نسبة من يجيدون الفصحى لا العامية منهم؟ ونقصد بالإجادة النطق والكتابة دون أخطاء واضحة. بالطبع لن تتجاوز النسبة في أفضل تقدير 20% إن بالغنا في الأمر، فالمشكلة إذًا، أن اللغة الفصحى ليست لغة يومية في وقتنا الحاضر. وهي في انزواء – أي الفصحى - يومًا بعد يوم عن الساحة العامة وعن الساحة الخاصة.

    أما انزواؤها عن الساحة العامة، فنحن ندرك حقيقة أن الفصحى ليست لغة التخاطب اليومية التي يستخدمها المواطن العربي في حياته حين ينطق. وهي كذلك في انزواء عن مجالها الخاص الذي راجت به وتطورت من خلاله كالإذاعة والتلفزيون. وهي بحق ما يطلق عليه الشوباشي "ظاهرة انخفاض المستوى اللغوي". والسؤال الأول الذي يجب أن يُطرح: ما المشكلة في ذلك؟ وأما السؤال الثاني: هل المشكلة فينا أم في اللغة العربية؟

"أهمية اللغة في حياتنا تتعدى الأهمية اللغوية إلى الأهمية الوجودية"

    في حقيقة الأمر، تحمل المشكلة شقين رئيسين فنحن جزء من هذه المشكلة واللغة نفسها هي جزء آخر للمشكلة. لكن قبل الخوض في غمار مشكلتنا مع العربية علينا أن نفهم اللغة وأهميتها في حياتنا والتي تتعدى الأهمية اللغوية الى الأهمية الوجودية. فقصة اللغة هي قصة الإنسان. إذ إن قصة التواصل البشري هي قصة الحضارة الإنسانية وهي قصة الماضي وأساس الحاضر وطريق المستقبل. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما هي اللغة وما أهميتها لتثير قلقنا؟ 


اللغة والإنسان

    تختلف تعريفات اللغة لكن ما لا خلاف عليه أنها أداة التواصل والتفاهم لكنها أيضًا وعاء الفكر "فاللغة هي الأداة الأساسية للتفاهم، لكنها أيضًا الوعاء الذي يتبلور فيه فكر الإنسان ورؤيته للحياة؛ وبالتالي فإن اللغة هي العنصر المشكِّل للثقافة والفكر والفلسفة والآداب". وعليه يقول الشوباشي في كتابه تحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه: "ظل التفكير الإنساني قاصراً وأقرب إلى تفكير الحيوان طالما لم تتكون لغة التحاور".

    وعادة ما يربط علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) بين اللغة وتطورها وتقدّم المجتمعات الإنسانية. فمع ظهور الإنسان وقبل نشأة اللغة بمفهومها المعروف كان التواصل عن طريق الأصوات والحركات. وهو سلوكٌ ما زال مرصودا لدى العديد من الحيوانات الأخرى. ثم تطورت وسيلة التواصل من أصوات وحركات إلى كلمات. وكذلك الحال في الجزء الكتابي للغة، فمن رسوم على جدران الكهوف إلى الكتابة بالرموز المصورة ذات الدلالات المباشرة ثم إلى الحروف الرمزية المعقدة، والتي لا تحمل معنى في ذاتها وإنما تعبر عن مقاطع صوتيه معينة. ولذا كانت الكتابة نقلة نوعية وأهم حدث ثقافي في التاريخ البشري، إذ بها بدأ التاريخ ووجد على أساسها الحد الذي يبين لنا عصور ما قبل التاريخ وما بعده، أي عصور ما قبل اختراع الكتابة وما بعدها. 


علاقة اللغة بالفكر

    وقد تناقش المتخصصون وتجادلوا حول قضية اللغة والتفكير وحول إمكانية التفكير بغير لغة. بين من يرى أن لا تفكير بغير لغة باعتبارها صورة الأشياء ووسيلة ربطها منطقياً في العقل البشري، ومن يرى أن اللغة وسيلةٌ لتطوير التفكير، لا وسيلة التفكير ذاته. والرأي الذي يتبناه كاتب هذه الأسطر هو القائل بأن التفكير كان موجوداً قبل اللغة لكنه كان تفكيراً بسيطاً جداً وبدائياً وآنياً يرتبط بصور الأشياء والأشخاص وربطها في عقل الإنسان الأول. قبل أن يصبح التفكير بالتعقيد والهيكلة والتدقيق وتتسع آفاقه مع الإنسان الحديث نتيجة استخدام اللغة. وبهذا تكون اللغة وعاء الفكر الذي ينقل التفكير البسيط إلى التفكر بعمقه. وهي كذلك – أي اللغة – وسيلة الربط والتحليل والتركيب والتفكيك للمدخلات والمخرجات في عقل الإنسان. فالمدخلات التي يتلقاها الإنسان – عادة عن طريق اللغة (استماعاً أو قراءةً) - تتفاعل كتركيبات لغوية داخل عقله ثم تصدر منه – كمخرجات - بشكلها اللغوي أيضاً (نطقاً أو كتابةً). 

"العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة جدلية تبادلية تفاعلية طردية"

    وبين الفكرة، والتفكير، والتفكر، والفكر، مساحات واختلافات. فالفكرة هي ما يطرأ على العقل عند التعامل مع الظواهر، والمواقف، والأشياء، والأشخاص. والتفكير عملية إعمال العقل في التعاطي مع ما حولنا بغرض توليد سلسلة من الأفكار المترابطة. أما التفكر فهو عملية التأمل في الظواهر والمواقف والأشياء والأشخاص بغرض إعطاء المقدمات والمسببات والخروج بالنتائج ضمن إطار منطقي معين. والفكر فهو منظومة الأفكار التي تنتج عن عمليتي التفكير والتفكر وتكون مترابطة منطقيا. وهي كذلك ذروة الإنتاج الإنساني عبر العصور. فالفكرة قد تنتقل عبر عملية التفكير ثم التفكر إلى فكر، أي إلى منظومة من الأفكار ضمن إطار منطقي معين. ومثال ذلك كل ما أنتج الإنسان من فلسفة وعلم وأدب...الخ. 

وعلاوة على ذلك كله، فإن اللغة هي وسيلة الحفظ والنقل والوصل للأفكار والفكر من جيل إلى جيل، فتصبح أداة التراكم المعرفي الذي ينتج التقدم ويبني الحضارة. ولذا لا حضارة بغير لغة، ولا استمرار لهذه الحضارة بغير تطور اللغة بما يتناسب مع كل عصر في المبنى والمعنى، والشكل والمضمون. 

"الضعف اللغوي يؤدي إلى التخلف الفكري"

    ومن المهم أن نشير إلى أن المواطن العربي يعاني من "شيزوفرنيا لغوية" حين يفكر ويتكلم بالعامية ويكتب وربما يستمع بالفصحى والعامية. والحل أمامنا هنا هو أحد الطرق الثلاثة لحل مشكلة الانفصام؛ إما القبول باندثار الفصحى لصالح العامية وبهذا نخاطر بالكثير كما أسلفنا. وإما أن نبقي على حالة الفصام لنعيش في ضعف لغوي وخطر دائم وتشتت لا ينتهي. والحل الأخير هو التطوير في اللغة نفسها أولًا ثم في أساليب تعليمها وتعلمها لردم الفجوة تدريجيًا بين العامية والفصحى. وآخر الحلول هو الأصوب في نظرنا، إذ لا يخاطر بضياع اللغة الفصحى ولا باستمرار مشكلة الفصام. ويجنبنا ازدواجية التفكير الناتجة عن الانفصام اللغوي. فكما أسلفنا، فإن التفكير ببعده العميق يحتاج إلى لغة على عكس التفكير البدائي. وبكل تأكيد لعبت هذه الإشكالية دورًا في تأخر العقل العربي. 

  والعلاقة إذاً بين اللغة وعقل الإنسان ونموه وتطوره هي علاقة جدلية تبادلية تفاعلية طردية، ليس على المستوى الفردي فقط، بل على مستوى العقل الجمعي. فهي وسيلة التعبير عن المجتمع والحضارة والعصور المختلفة. وهي تعبير حقيقي عن جوهر المجتمع. وكما تتأثر اللغة بالمجتمع تؤثر فيه. فقد يؤدي الضعف اللغوي إلى ضعف حضاري. حيث إن الضعف اللغوي يؤدي إلى التخلف الفكري وتحجيم الإدراك وإضعاف القدرة على الخيال والإبداع والتفكير المتعمق في ظواهر الحياة بمختلف جوانبها وأبعادها. لذا فإن الضعف اللغوي يؤدي إلى ضعف مادي. والعكس كذلك صحيح. لذا فإن فهمنا لطبيعة هذا التأثير والتأثر المتبادل يجعلنا في حاجة إلى استيعاب المشكلة اللغوية كمشكلة حضارية. وكما ندرس في علم الأحياء نشأة الكائنات الحية وتطورها ونشأة وتطور المجتمعات البشرية في علم الاجتماع وعلم الإنسان، فإن العلوم كاللسانيات وعلم اللغات تقوم بهذه المهمة في هذا المقام. 


تطور اللغة

    النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي، هي مصطلحات درجنا على سماعها وقراءتها واستخدامها في علم الأحياء لوصف وتحليل حياة الكائنات الحية على هذا الكوكب. ولطالما استعيرت في علوم أخرى ومنها العلوم التي تعنى بدراسة اللغات. إذ تضع لنا صورة واضحة عن حياة اللغات وتطورها أو انقراضها. فاللغة على حد وصف جورجي زيدان "كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء". وباعتبار اللغة لصيقة بالإنسان فقد ارتبط تطورها بتطور الإنسان والمجتمعات وما تعلق بهما. 

فاللغة العربية من لغات العائلة السامية كالآرامية والكلدانية والعبرانية والفينيقية وهي لغات ميتة باستثناء العربية والعبرية اللتين نجتا من الانقراض الطبيعي، ولكنهما بالطبع تطورتا، تطورًا طبيعيًا طوعيًا ذاتيًا وخارجيًا، إلى حد ما. ونقصد بعبارة "إلى حد ما" أن العربية مثلا وهي – موضوع اهتمامنا هنا – قد واجهت محاولات منع وعرقلة للكثير من عمليات تطويرها حتى توسعت الفجوة وما زالت تتوسع بينها وبين اللهجات العامية. 

    أما عن التطور والتطوير (الذاتي والخارجي) فنبدأ بالتفريق بين التطور والتطوير. فأما التطور فنقصد به ما كان طبيعياً دون تدخل متعمد لمعالجة مشكلات اللغة أو عيوبها. والتطوير على العكس من ذلك، إذ يكون عملاً متعمداً ومدروساً لمعالجة مشكلة أو عيب في اللغة بغرض جعلها تلائم العصر وتؤدي مهمتها بأفضل ما يمكن. 

    أما عن جانب التطور الطبيعي البارز في اللغة العربية الفصحى اليوم فإن العربية الفصحى تختلف عن تلك التي كان يُكتب بها الأدب والفكر في عصور سابقة. وعلى الرغم من محاولات التيارات المحافظة السيطرة على تطور اللغة ومحاولة حبسها في بوتقة التقديس. والذي تم عن طريق ربطها بالدين. لتواجه العربية اليوم ما واجهته اللاتينية منذ عهد مضى. إذ حاول رجال الكنيسة ما يحاول تيار المحافظة القيام به اليوم مما أدى إلى انحسار اللغة عن الناس شيئًا فشيئًا. فانحصرت اللغة في رجال الكنيسة والطبقات الأرستقراطية في أوروبا ثم انقرضت اللاتينية إلا من الكتب القديمة في الساحات الأكاديمية المتخصصة. فهذا هو ناموس الحياة وقانونها، فما لا يستطيع التأقلم مع العصر ومواكبته والتغيير معه ينقرض. أو كما يقال: ما لا يستخدم ينتهي. ويجب أن يفهم هؤلاء أن "اللغة كائن حي لا يحنط فالتحنيط للموتى". والتطور الطبيعي حاصل رغم كل قيود المحافظين فحتى على مستوى الصياغة؛ إذ بلا شك قد تغيرت أساليب الكتابة عبر الزمن فلم يعد أحد يكتب في يومنا بأسلوب ابن خلدون في المقدمة مثلًا ناهيك عمن قبله. بل إن الكثير من المفردات القديمة لم تعد تتواجد إلا في المعاجم والتي بدورها توضح لنا عددا من التغيرات في استخدام اللفظة الواحدة لدلالة على أشياء مختلفة.

    فأما التطوير فقد حدثت للغة العربية تطويرات عديدة منذ ظهورها وحتى الرسم النبطي والتنقيط والتشكيل لتتلاءم مع التغيرات التي طرأت في وقته -كاتساع رقعة العالم العربي. وهذا التطوير هو شيء مهم لجعل اللغة العربية تتناسب مع العصر وليسهل تعلمها لغير الناطقين بها فكيف بأبنائها. وقد نادى الكثيرون إلى تطوير لغتنا الفصحى في العصرين الحديث والمعاصر لتكون مناسبة للعصر وموائمة للتغيرات لكن دعواتهم قوبلت إما بالتجاهل أو بالتشكيك في نوايا أصحابها، إلا من بعض المحاولات في بعض الدول العربية لجوانب معينة كالاشتقاق للمصطلحات والتي وإن كانت محاولات ضيقة إلا أنها جهد عظيم ومهم. 


مشكلات لغوية معاصرة

    تواجه العربية خطراً عظيماً في انحسارها لصالح العاميات العربية. فعلى الرغم من أن دعوات استخدام العامية عوضاً عن الفصحى في الكتابة في القرن الماضي قد ووجهت بالرفض الشديد إلا أنها عادت للصعود فعليا في وقتنا الحالي، فأصبحنا نرى الكتابة بالعامية في الصفحات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي. وبدأت المحاولات لنشر "أدب العامية"، بل وصل الأمر إلى أهم معاقل الفصحى وهو الإعلام. فبعد أن درج الناس على استخدامها في السينما والمسرح، أصبح الحديث بالعامية اليوم في معظم البرامج التلفزيونية والإذاعات، وأوشكت الدبلجة بالفصحى للمسلسلات - حتى تلك الموجهة للصغار - أن تصبح من الماضي. ولم يعد للفصحى إلا ما بين دفات بعض الكتب وحناجر بعض المذيعين في نشرات الأخبار والذين هم في تناقص مستمر. وهنا نضع السؤال الأهم: لماذا تراجعت الفصحى لصالح العامية؟


انفصال الفصحى عن الواقع

    ونتيجة لتيار المحافظة وللقدسية التي وضعها هذا التيار على اللغة عن طريق ربطها تعسفاً بالدين، انفصلت العربية الفصحى عن العاميات العربية بشكل كبير. ونتيجة للتطور الطبيعي شهدت العاميات العربية تغيرات كثيرة ومصطلحات مختلفة فيما ظلت الفصحى مقيدة عن التجديد والتغيير إلا من النزر اليسير. وقد حذرنا صوت عميد الأدب العربي طه حسين من قبل قائلاً: "وأنا نذير للذين يقاومون هذا الإصلاح بخطر منكر، وأن اللغة العربية الفصحى إذا لم ننل علومها بالإصلاح، صائرة – سواء أردنا أم لم نرد – إلى أن تصبح لغة دينية ليس غير، يحسنها أو لا يحسنها رجال الدين وحدهم ويعجز عن فهمها وتذوقها فضلاً عن اصطناعها واستعمالها غير هؤلاء السادة من الناس" وهو ما حدث فعلا مع اللاتينية.  

    والحل في نظرنا – وهو رأي طرحه الكثيرون قبلنا – أن يتم التقريب بين العربية والعامية عن طريق فتح المجال للتأصيل اللغوي للكلمات العامية وتضمينها في اللغة وتعميمها وهو حل يتطلب جهدًا مؤسسيًا عربياً موحداً. تشترك فيه الدول ومؤسساتها وقوانينها، والمجامع اللغوية، والكُتاب، والمثقفين. وهو جهد ليس على مستوى الألفاظ فقط، بل قد يتجاوز ذلك إلى تعديلات نحوية وبنائية إن تطلب الأمر.

"التغيير الذي قد يحدث رغما عنا يجعل اللغة الفصحى تنقرض"

    أما المشكلة التي في يد الدول العربية حلها حتى وإن كانت منفردة بالقيام به فهو تطوير أساليب تعليم العربية بناء على النظريات العلمية الحديثة في تعليم اللغات. فمع الأسف ما زالت كل الدول العربية تستخدم أساليب قديمة في تعليم العربية على رغم من أن بعضها تتجه نحو التفكير العلمي حين تدرِّس لغات أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية في نفس البلد وربما أيضاً في نفس المؤسسة التعليمية. ولعل ذلك ناتج من الاعتقاد بتقليدية اللغة العربية وأن لها عالمها الخاص وأساليبها الخاصة على الرغم من أن الواقع العلمي يبحث في نظريات وأساليب تعلم اللغات بشكل عام، ولا شيء منطقي يجعل اللغة العربية استثناء. فبعض الأساليب والنظريات والمناهج التي اعتمدت كأساليب تعليم اللغات الثانية (Theories of Second Language Acquisition) لا أرى سبباً حقيقياً وموضوعياً يمنع من تحويرها والاقتباس منها في تدريس اللغات الأم. بل إنني أرى أن استخدامها مع اللغات الأم من شأنه أن يعطيها ميزة إضافية وأن يجعلها أسهل من تعلم اللغات الثانية، نتيجة لمميزات موضوعية للغات الأم كالمجتمع المحيط والاستخدام المباشر وإمكانيات التعلم المستمر... الخ. 

    إن موقفنا يجب أن يكون دائما داعماً لعمليتي التطور والتطوير للغة العربية لا مجمداً لها. فمحاولات حفظ اللغة في بوتقة القدسية ومحاربة أي تغيير يطرأ عليها هو نوع من الجمود الذي يقود إلى فناء اللغة، وضعف الحضارة وانقطاع التاريخ. "والاتصال المطلوب بالتراث اليوم يمر بتطوير سريع وجريء للغة؛ وليس بالتمسك بها كما هي بغباء ما قد يؤدي إلى أخطر النتائج على العربية". فالتغيير الذي قد يحدث رغما عنا يجعل اللغة الفصحى تنقرض، لذا لنكون السباقين في إحداث التغيير والسماح لسنة التطور أن تأخذ مجراها. ومن الصواب القول هنا "إذا أردت أن تتفادى الثورة، فاصنعها بنفسك" على حد تعبير ميكافيللي. ويقول: فيكتور هوجو: "حين تعيق مجرى الدم في الشريان تكون السكتة، وحين تعيق مجرى الماء في النهر يكون الفيضان، وحين تعيق مستقبل شعب تكون الثورة"، ونحن نقول إن منع اللغة عن التطور وإهمال التطوير فيها وفي أساليب تعليمها سيحدث ثورة من نوع آخر؛ هي ثورة العامية على الفصحى. وثورة القطرية على الأمة الواحدة، وثورة التجزئة على الوحدة، والتشرذم على التعاون والتكامل العربي. ثورة تنتج ما تنتجه الثورات دائمًا، الفوضى على أمل الاستقرار.

شريف الشوباشي، تحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه، الفصل الأول: برج بابل، مؤسسة هنداوي

شريف الشوباشي، تحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه، الفصل السابع: شيزوفرينيا لغوية، مؤسسة هنداوي

جورجي زيدان، اللغة العربية كائن حي، المقدمة، مؤسسة هنداوي

طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، الفصل 37، طبعة دار المعارف، 1996م

الأمير، نيكولو مكيافيلي


Related Post